أوراق التنُّوب الإبرية، التي حدَّق لوشا إلى هندستها النباتية ملياً قبل مضغها، كانت وحيَ الأصل في لغة الشكل المسماري، حتى لو لم يجزم تاريخ النبات بميلاد شجرتها في أرضٍ من شرقِ الأساطير، وشرقِ العقل، وشرقِ العلوم، وشرقِ العُمران، وشرقِ الشرائعِ الأُسس.

مضغَ لوشا وحيَ الحروف المسمارية ورقاً إبرياًّ أخضرَ، دائمَ الخضرة في الفصول كلها. لَاكَ الحروفَ الورقَ النباتيةَ. ابتلع العُصارة العَفصة المُرة، ولفظَ من فمه الثُّفل الممضوغ.

لُوْشَا شابٌ في الثلاثينيات من عمره، يعمل في المكتبة العامة لبلدة صغيرة تدعى إِيْلا؛ يقع في غرامٍ محظور لصديقة مشتركة بينه وبين خليلته تدعى أُوْسيْنْ، شاعرة متزوجة من شقيقها التوأم يدعى إِيْثَاكْ؛ يدّعي لوشا بأنه مصاب بالكآبة ليهرب من مواجهة نفسه إلى عزلة في الغابة لمدة أسبوع، مصطحباً معه بعض الطعام والمستلزمات التي يستخدموها في النزهات، بالإضافة إلى كتاب «جرائم الرسامين في العصر الكيريني»، وهو – كتاب أسطوري ــ ذكر سليم بركات بعض المقتطفات عن الكتاب في الرواية.

في وقتٍ شتوي مثلج لا يصلح للنزهات أو للتخييم، يذهب لوشا إلى عزلته في الغابة، ويقيم في ملجأ بدائي الصنع، بعد أسبوع يستنفد ما معه من طعام ويحاول العودة إلى بلدته، لكنه لا يهتدي إلى طريق الخروج من الغابة. لتبدأ رحلة الجوع والبرد أياماً مليئة بالهذيان والهواجس والوساوس، ضياعٌ ملعون يتهيأ للوشا مواقف مجنونة، كما لو أنه في الجحيم، جحيم البرد والوحشة والجوع.

يرافقه في الضياع شخصيات وهمية من صنع خياله، وشبح مغولي وحصانه، يكثر سليم ظهور الشبح المغولي في ضياع لوشا، كما لو أنه شريكه في الفقد.

«وجود شخص بين الكتب يجعل الوساوس أنيقةً في التعبير عنها بالكلمات». ص ٢٠.

هذا ما يقوله الطبيب النفسي الوحيد في البلدة للوشا قبل ذهابه إلى الغابة، بعد زيارته للطبيب حين أقترحت عليه خليلته كوليت ذلك قبل عزلته، رفض لوشا الأمر في البداية، لكنه ذهب فيما بعد شبه مرغم.

يرفض لوشا فكرة الطبيب بأن الوساوس تتملكه. تحدث بينهم مبارزة فلسفية جميلة في الحوار، كما لو أن لوشا يثبت للطبيب بأنه لجأ إليه مرغماً، يسخر حيناً من صورة النمر المعلقة خلف الطبيب، ويطلب منه الزواج من أمه حيناً آخر. ورموز أخرى تضع القارئ في لوعة المزيد من تلك المقتطفات التي توقعه في شِباك الإسقاطات الفلسفية الممتعة.

«نظر لوشا إلى الساعة في معصمه الأيسر نظرةً لا يَخفى على لونتين معناها، أيْ أنَّ حساب الوقت لساعة واحدة من الزيارة مُكلِفةٌ.

سأمنحك إحدى وعشرين دقيقة إضافية مجاناً. قال لونتين». ص ٢٢.

يربط علماء النفس الرقم واحد بالاستقلال، والفردية، والبدء، والشعور العام بالبدايات الجديدة، عندما تواجه هذا الرقم، فكر في مجالات حياتك الجاهزة للتغيير، وكيف يمكنك اتخاذ خطوات لتفعيل تلك التحولات بنفسك.


الرقم اثنان

يقول علماء النفس إن هذا الرقم يشير إلى الحساسية والصبر، مضيفين أنه قد يمثل أيضًا علاقاتك، لذا إذا كان الرقم الثاني يظهر في حياتك كثيراً مؤخراً، فقد تحتاج إلى تحدي نفسك للإبطاء والميل إلى الشراكات المهمة في حياتك.

أشار سليم في هذا المقطع عن البدء في فكر استقلالية لوشا بمفرده في الغابة، وعن تفاصيل شخصيته الحساسة والصبورة، والتحدي الذي يخوضه في نفسه بينما هو على علاقة مع أنثى وقلبه واقعٌ في غرام أنثى ثانية تكون شاعرة وصديقة مشتركة له ولصاحبته.

هو رقم مكون من خانتين، لكن له دلالات طويلة وعميقة في علم النفس، لم يرمي بها سليم عن عبث، أسند لوشا وأفكاره وشخصيته وقراره في ذاك الرقم، من خلال نقاش بينه وبين طبيب نفسي.

في هذه الرواية التي يتحدث فيها عن شابٍ تائه في الغابة بين الثلوج، صمتٌ مُطبقْ على الرعب، مثل شعور الثلج، أبيض ساحر لا وزن له، لكن له فعلٌ كبير، يرغم الذي يسير عليه أن يحمي نفسه من البرد والسقوط.

هي رواية تنتمي إلى أدب الرعب، لا تخلوا من التحولات في مضمونها، بين الفلسفة والأدب واللغة التي ينحت بها سليم، ضربٌ من الخيال ممزوجة ببعض الأساطير التي يميل إليها سليم في أغلب أعماله التي تتحدث عن العوالم الأخرى، يتحدى فيها خيال القارئ على قدرته للتنسيق بين واقعيةٍ مفرطة، وفلسفة مؤطرة بالخيال والرعب، تغرق القارئ في عمق التاريخ مع سيره بجانب الواقع. منح الواقعية لشخصيات الرواية الأساسية وانحدر إلى فلسفة الرعب والخيال في تفاصيل ضياع لوشا في الغابة، كأن يجعله أن يفكر في تناول لحم الإنسان من الجوع وهو يبحث عن طريق العودة في غابةٍ مليئة بأشجار التنوب مغطاة بكاملها بالثلوج، لا تميز العين الفرق بين السماء والأرض، تختلط الألوان في أعين البشر، كما لو إن سليم أخترع دوار جديد في عالمنا يشبه دوار البحر، لكن على اليابسة. يفقد فيها الإنسان أحاسيسه.

دوار البحر ينتج عن عدم تطابق المعلومات التي يتلقاها المخ من الأذن الداخلية وما تراه العين. وهناك دوار الحركة التي تحدث من ركوب السيارات أو الطائرات، لكن في هذه الرواية هناك دوار من نوع آخر. كل شيء باللون الأبيض. ويفقد لوشا المعلومات في خياله، لتندمج الحقيقة بالخيال.

في إحدى المرات التي يجتمع فيها الأصدقاء أيام العطلة يحدث نقاش بين كوليت وأوسين، عن المغول والأسماك والزواج الروحاني، ومن ضمن الحديث تعرّف أوسين زواجها بشقيقها إيثاك بعد أن حاصرتها كوليت بالأسئلة ووقفت عند نقطة زواجها من إيثاك، قائلة:

«زواجي هو العودة إلى شريعة الأصل». ص ٩٠.

بينما كان لوشا و إيثاك يلعبون الشطرنج تطرح كوليت هذا السؤال الذي يشعل ناراً في الجلسة مما يجعل أوسين أن تقلب الحوار لصالحها بطريقةً ذكية، حين بدأت تذكر لهم تزويج الأخوة زمن الفراعنة، وأولاد آدم وحوا، وتنتهي بالنقاش بقصة قصيرة وغريبة ومؤلمة، تقول فيها:

«بحثت فتاة في السابعة عشرة من عمرها طويلاً عن كهل في الخمسين. عثرت عليه. أغوتْه. جامعتْه. كلمتْه وهي ترتدي ثيابها مغادرةً غرفةَ نومه، أتعرف امرأة تُدعى كاساندرا؟

تذكر الكهلُ الإسمَ. تساءل: مابها كاساندرا؟

فردت الفتاة: حبلت منك. هجرتَها قبل أن تلد.

غمغم الرجل : كيف تعرفين؟

فردت الفتاة: أنا ابنتها – ابنتك». ص ٩١.

كانت هذه القصة كافية لتخبر كوليت أن لا تدخل في تفاصيل زواجها من شقيقها التوأم، لربما كان لوشا شقيقها من غير أن تدري. هذا ما كانت تنوي عليه.

«سوءُ عاطفةٍ جذبت قلبَه من شرايينه إلى عزلةٍ، كي يتفادى امتحان المواجهة مع الحقائق: إنهُ يحب أوسين، من غير أن يتنازل ولاء عقله لصاحبته كوليت. بين عقل لوشا وعاطفته سوءُ تفاهم؛ بل عنادٌ في الإصرار على سوء التفاهم، بل تفاهمٌ على تمزيقه». ص 200.

كل شيء في هذه الرواية تميل إلى الرعب بانحدار خفيف يسير ببطء بين سطورها، تفاصيل مقلقة، معذبة، ترسم بالخيال تفاصيل متاهة مغلقة، تنتهي بسطور قليلة تصدم القارئ.

الخوف فيها يسيطر على شخصية لوشا من البداية إلى النهاية، يختلق الفظائع ليتعامل مع حقيقة ضياعه بصورةٍ مرعبة؛ خوفه من الجوع والموت، يجعله يتذوق بلسان خياله أشياء غير مستساغة في الطعم، كل شيء مباح له في خياله، أعضاء بشرية وحيوانية، أوراق من الكتاب الذي يحمله، نباتات، وبالثلج يلّين كل شيء ويتناوله في لسان خياله. أفكارٌ جنونية تحوم في مخيلته، كبشرٍ ماتوا في الغابات وهم يلتهمون أجساد بعضهم البعض، أو سفن علقت في الجليد وتاهت بين العواصف، فالتهم راكبوها بعضهم البعض؛ أو منجمٍ ينهار على عماله فاضطروا إلى تناول لحوم موتاهم. منتصرين في الحروب يأكلون لحوم أعدائهم؛ قبائل تتغذى على لحوم أقاربهم من الموتى وفاءً لهم.

لم يتوقف لوشا في مسيره الجديد إلَّا بعد وقت ذائب في مقلاة  الزمن على نار الثلج. أرخى يديه عن حمالتي الحقيبة وكيس النوم فأسقطهما. تفحَّص المكان من حوله لاختيار مبيتٍ مبكر تحت الأشجار. استخرج من الحقيبة مرِشَّة الملح. دلق بعضاً منه في يده اليسرى فنثره دائرياً، اقتداءً بالأساطير منعاً للأشباح الأشرار من اختراق دائرة الثلج. لعق راحة يده. هتف بصوتٍ ذرَّاتٍ مالحة:

«لم أعُدْ أحصي الأيام بحثاً عن مَخْرج من الغابة. أيبحث أحدٌ عني؟ ماذا إنْ كنتُ حقاً بلا حياة قبل دخولي الغابة؟ ماذا إن كانت كوليت خليلةً توهَّمت وجودها؟ ماذا لو كانت أوسين صديقةً توهَّمتُ هواها؟ ماذا لو كان إيثاك وهْماً، ومكتبة إيلا وهْماً، وناس بلدة إيلا وهماً؟ ماذا لو كانت بلدة إيلا وهْماً توهُّمتُه من جذب الجوع عقليَ إلى الهذيان؟ أكنتُ موجوداً حقاً قبل دخولي هذه الغابة؟ أم أنا قصيدةُ جوعٍ لم تستكملها بعدُ، يا أوسين؟». ص 269.

وفقاً لموسوعة المعارف البريطانية، لا يُعد أدب الرعب فناً حديثاً، فتاريخه يعود إلى الفلكلور والحكايا الشعبية القديمة التي كانت مليئة بالسحرة، والجن، ومصاصي الدماء. أما في العصر الحديث فيرجع أول ظهور لحكاية رعب مكتوبة في شكل روائي إلى القرن الثامن عشر الذي شهد أول ظهور للأدب القوطي، الذي يدمج الرعب بالخيال بالموت والرومانسية، ورواية سليم هذه تنتمي لتلك العائلة من الآداب، مبنية على الأسس الأربعة للأدب القوطي.

يبدأ الرواية في عزلة لوشا، ويسير ببطء في حبك تفاصيل الأحداث والذكريات التي حصلت والتي لم تحصل مع لوشا، أستطاع بلغة قوية كعادته أن يحيك عملاً جديداً من نوع جديد.

لتوابل الفلسفة مذاقٌ خاص، تمنح العمل الأدبي نكهةً ساحرة تُسر كل من يتذوقه، ولوصفات سليم في الفلسفة توابل صنعت خصيصاً من يده، احتكرها لنفسه، وقدمها ألينا على طبق من ورق مغلف بالذهب.

الرواية ممتعة بشكلٍ كبير، مليئة بالإسقاطات والرموز كعادة سليم في أعماله، أنيقة في دهاليزها، مبهرة في فكرتها. هناك روايات مليئة بالأحداث، وروايات تدور حول حدث واحد، ويلتف الكاتب من حول الحدث بطريقته وأسلوبه، ومن الروايات التي تتكلم عن حدث واحد وأعجبتني بشكلٍ كبير، هي رواية «البعث» لتولستوي؛ وهذه الرواية هي كذلك، حدثٌ واحد، يعوم سليم فوقه من البداية إلى النهاية؛ يستثير فيها مشاعر الخوف لدى القارئ بطريقة ذكية، ويرفع الخوف الفطري بكل الطرق، كالخوف والقلق والتوتر؛ أجتهد في كتابتها بطريقة جديدة، مزج أكثر من نوع من أنواع الخوف في الرواية، يغرس فيها الشعور بالخوف في نفس القارئ بهدوءٍ ممزوج بالسحر، ذكر في الرواية اسم المطربة الأيسلندية بيورك، التي تتميز بأغانيها المستوحاة من الرعب والخوف، ذكرها سليم حين كان لوشا يتذكر بعض الأمسيات التي كان يجتمع فيها مع أصدقاءه هو وخليلته، كما لو أنه أراد أن يوظف موسيقى تصويرية ترافق الرواية مثل الأفلام، ونجح. شعرتُ كما لو أن أغاني بيورك ترافقني بين صفحات الرواية، لتختلط الأحداث لدي، وأفقد بوصلة الرواية. الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2021، حيث جاءت في اثني عشرة فصلاً وثلاثمائة صفحة.

على الغلاف الخلفي يكتب سليم تعريفاً عن الرواية:

«شخص يقصد الغابة معتزلاً لأسبوع في شتاءٍ ثلجيّ، لمواجهة نفسه الموشكة على غرام محظور. يتيه في العودة من الغابة.

ماضٍ يُستحضَر. تهيُّؤاتٌ مقلقة ومخيفة. جوعٌ طاحن. مغامرة تلقي الضرورات عليها بثقلها الأقصى فرْضاً لخيارين مرعبين: إما تفضيلُ الموت جوعاً، أو أكْلُ لحمِ إنسان.

إنها رحلة اللاعودة».


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية